
في مثل هذا اليوم قبل 17 سنة رحل الأديب العالمي الريفي محمد شكري ، رحل و قد فاته الأمر ليكون ملاكا ، محمد شكري ليس فقط ذاك الروائي الذي أبدع في تصوير سيرته الذاتية في كليشيهات مرئية استطاع ان يوصلها للمتلقي صورا متحركة لنصوصه المكتوبة…
شكري بصق في وجوهنا جميعا يوم كتب ، و علمنا معنى أن يتصالح الفرد مع ذاته لدرجة اللعب على المقموع و ترويض الطابو و المدنس في تمثلات الجماعة بجعله بطل النص و إخراجه للواجهة ، كان بإمكان شكري أن يجعل من شكري الخبز الحافي شخصية متعالية بتعطيرها بحمولة النفخ في الأنا عكس شكري القاع و شكري البئيس و شكري الذي تألم مرتين ، مرة يوم عاش الأحداث و مرة اخرى يوم وثقها بالكتابة كما حدثت ، كان بإمكان شكري أن يجعل زمن الأخطاء في شكل آخر و يتحدث عن شكري الذي أراده ان يكون و ليس شكري الذي كان بكل دقة و تدقيق و صدق دون خجل مما عاشه و عايشه ، و يجعل من الخيمة و السوق الداخلي روايات الحاكي و ليس السارد ..
شكري كان سوسيولوجيا بتشريح كل الاعطاب الاجتماعية و اخراجها للعلن بدل تركها مرتكنة في العقل الباطن الريفي ، و كان مؤرخا وثق كل التفاصيل التي عايشها في ايت شيشار و تطوان و طنجة ، شكري هو الجانب المظلم فينا الذي نحاول قدر الإمكان قمعه بالسعي لإخفاءه للحفاظ عن صورنا المثالية الزائفة و النمطية التي نعلبها و نسوقها للآخر قصد إبهاره و لفت انتباهه ، ذاك فقط لأننا ضحايا سلطة المرآة العاكسة ، شكري تعايش مع خدوشه الحياتية و أقر بها عكسنا نحن الذين نخفيها قدر الإمكان ..
كان بإمكانه ان يكون شكري آخر يتماهى مع ماركوتينغ الصالونات الابدبية، لكنه كتب لنفسه و كان شاهد عيان على حادثة تاريخية اسمها سيرة و حياة محمد شكري بكل تفاصيلها و سوادها و تناقضاتها و تصارعات الكبت و الارادة ، فهو بذلك يشبه قليلا فريديريك نيتشه فكلاهما تطلعا للانسان السامي و الراقي، غير ان شكري كان هو التنزيل الواقعي لسوبرمان من نوع خاص ذو إرادة القوة الذي تفلسف من اجله نيتشه ..
صدق و جرأة قلمه أسالت عنه الكثير من المداد و خصوصا من الرخ و بنجلون اللذان ظلا يعانيان من عقدة شكري و لم يجدا تفسيرا للسؤال ” كيف لهذا الوبش الريفي البدوي ان يصير عالميا ؟ ” ظل السؤال يقض مضجعهما، و على السؤال ذاته تبول شكري بالكتابة كما يريد هو و ليس كما أرادوا و أُريدٌ له ، فلو فعل العكس لكان الخبز الحافي امبورغا و لكانت ليالي زمن الاخطاء ليالي أنس خُلدية و شهرزادية بدل ان تكون ليالي القاع التي كانت حانة الروبيو و شوارع طنجة و أزقتها و ماخوراتها و قاعها بأكمله هي مادة شكري الخامة الادبية و مسرحا لأحداث واقع متناقض و متداخل يمثل توصيفات البؤس و تناقضات الحياة و تصادمات اللاهثين وراء زيف المثالية من أسفل درك المجتمع و قاعه لاسيما أن تكون ريفيا أرغمتك الحياة ان لا تستقر و أن تشعر بكهولتك و أنت لازلت طفلا كشكري …
شكري الصعلوك الذي خُذل حيا و ميتا، فقط لأنه ابن هامش اعتبره المركز وافدا غير مرحب به بل و مغضوب عليه بل ومزاحما لمحتكري إيتيكيا الصالونات من أهل الرباط و فاس الذين اعتقدوا أن الأدب لا يولد إلا في كنفهم.
الخلود لشكري الذي لم و لن يموت…